هل تعرف شاعراً تنساب القصيدة من أنامله كالنبع، كالنهر في الجريان. شاعر أصيب بالصمم والبكم، فتسلمت مسام جلده المهمَّة لينطق عبر جسده كُلِّه أجمل ما يمكن أن يقال من كلام؟. رياض صالح الحسين، شاعر ينتمي للورد في الحقل وللوعول في الغابات. إنه أكبر من شاعر وأكثر من قصيدة. قد لا يملك رياض فصاحة نزار قباني أو عمق فلسفة محمود درويش في القصيدة. ولكنه يملك تجربة شعرية غنية ويمنح القارئ إحساس الظل وقت الظهيرة. وعبر الصعاب التي مرّ بها والآلام الشخصية التي كابدها يرسم لنا القصيدة كمعنى آخر للحب والبساطة. دعونا نعبر بخطًا رقيقة على جراح قصائده في هذا المقال، علّنا نتلمس شيئًا من عمق مروره القصير بيننا ونجسُّ نبض آلامه.
المحتويات
من هو رياض الصالح الحسين
هو شاعر سوري المولد والهوية، يعد من أبرز رواد الشعر العربي. وعلى الرغم من المتاعب التي عانى منها في حياته إلاّ أنه استطاع عبر حياته القصيرة (1954- 1982) أن يثري التجربة الشعرية السورية والعربية. وينطق بالشعر دون تكلّف لتتهادى عبر قصائده آلاف من التعابير الشعرية التي تلامس القلب والأحاسيس وتعبر من خلالها حقول من الرقة والرهافة، قد لا نجدها في أي شعر آخر.
نشأ شاعرنا في محافظة درعا السورية لعائلة تعود جذورها إلى مارع في ريف حلب. لأب متطوع في الجيش وأم هي الزوجة الثانية عند أبيه. فيما، بلغ عدد أشقائه تسعة، ستة منهم ذكور. ولكن الطفل الموهوب أنهكه المرض عندما وصل إلى الصف السابع. في حين، تغلب عليه وهو لم يتجاوز الثالثة عشر، فَقَدَ نعمة النطق والسمع بعد خضوعه لعملية جراحية إثر قصور كلوي حاد. وبسبب ذلك، اضُطرَّ على ترك التعليم، لكنه قرر خوض تجارب صعوبات التعلم بنفسه. وعلى الرغم، من الظروف المعيشية القاهرة والبطالة التي عانى منها، إلاّ أنه عمل كصحافي وشاعر منذ عام 1976 وحتى وفاته في دمشق.
ما هو سبب وفاة رياض الصالح الحسين
لم تكن حياة “رياض” كما ينبغي لها أن تكون لشاعر ومبدع مثله. فبالإضافة، إلى مرضه السابق ومعاناته من تداعياته. إلا أن السبب الحقيقي وراء وفاته لم يكن ذلك. فقد عانى من عدة صدمات في حياته كان لها الأثر البالغ عليه، فحين يكون الشاعر عظيمًا يكون إحساسه مضاعفا ومُصابه كبيرًا وهذا بالضبط ما حدث لرياض.
يكاد يُجمع زملاء القصيدة، إن السبب الحقيقي لذبول رياض الأخير كان أزمة عاطفية أحاطت به وزادت من انعزاليته، بل تجاوز البعض في تكهناته ليقول أن موته المباغت كان نوعا شبيها بانتحار للفت النظر، فوقع حبيس غرفته في حي الديوانية في دمشق، منقطعًا عن الشراب أو الطعام. ليتم نقله فيما بعد إلى مشفى المواساة بعد أن استفقده صديقيه مهدي محمد علي وهاشم شفيق، فقد وجداه ينازع الموت وحيدًا وغريبا كما يليق بشاعر. لينتهي بوحه في مساء خريفي يلفُّه البرد والذهول، تاركًا لنا عن عمر قصير لا يتجاوز الثلاثة عقود، دوواين شعر موزعة بين الموت والحب في كفّتين متعادلتين كنهاية متوازنة لعمر مُتَشظٍّ.
ذات مساء ربيعي فاتن من مساءات 1977، اقتحم رياض عالمي ولم يغادره حتى اللحظة. ليس سهلًا أن يسكنك شاعر ضِلِّيل، فيه من القلق ما يسحق مئة فرس برية، ومن الحب ما يُغرق مئة امرأة، ومن الكرامة ما يجعلك تشعر بالضآلة والخجل
وائل سواح، من مقال “حين قرأنا خبر موت رياض”
الأعمال الكاملة للشاعر
لحق رياض بركب شعراء السبعينيات متأخراً، ولكنه تربع على كرسي النثر والشعر فوراً. فقد ضمّه الكاتب محمد جمال باروت إلى أسماء الكتاب المبدعين في كتابه (الشعر يكتب اسمه). إضافة، إلى أسماء أخرى برزت في سماء الشعر السوري مثل نزيه أبو عفش. وقد نال مكانته عبر أول ديوان شعري له (خراب الدورة الدموية 1979)، الذي تميّز فيه بالنبرة الإيقاعية الجديدة أو المعاصرة. أما في المجموعة الشعرية الثانية له ( أساطير يومية 1980). فقد تحرر من كل ما يقيد القصيدة أو يحدّ من تدفقها الرّهيف.
المجموعة الثالثة، كانت باسم (بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس 1982) والتي أطلقها قبل وفاته بخمسة أشهر فقط. وفيها نجد أن الشعر عند رياض تفلَّت من عِقاله وأصبح تامَّ الحرية. حيث اتكأ على مفردات غاية في الفرادة ليثير دهشتنا من جديد بالمشهد الشعري. الذي يرسمه شاب فَذٌّ بسيط كالماء لكنه أكثر وضوحًا وتفجُّرا من طلقة مسدس.
ديوان رياض الشعري الرابع والأخير، كان له الصيت الأكثر شهرة بين أعماله (وعل في الغابة 1983) والذي صدر بعد رحيله بعام. هذا الديوان كان قد تركه رياض، كمخطوطة جاهزة للطباعة مزيّلة بإهداء إلى حبيبته (هيفاء أحمد).
في عام 2016 صدر للشاعر “ديوان الأعمال الكاملة لرياض الصالح الحسين”، والذي افتُتِح على وقع قصيدة للشاعر منذر مصري لتتوالى بعدها أعمال رياض الشعرية الأربعة. بالإضافة، إلى مقاطع شعرية بخط يده ترافقها شواهد خطّها السوري فرج بيرقدار وشاعران عراقيان آخران. فيما، أشرف على هذا الإصدار ابن أخت رياض مع شهادة مكتوبة من قِبَله في ختامه.
حارٌّ كجمرة
بسيط كالماء
واضح كطلقة مسدَّس
و أريد أن أحيا
ألا يكفي هذا
أيَّتُها الأحجار التي لا تحبُّ الموسيقى؟رياض الصالح الحسين
قراءة بسيطة في شعر رياض
على الرغم، من قصر حجم التجربة الشعرية التي عاشها الشاعر إلاّ أنه من الصعب الإحاطة بجوانبها كلها. فرياض الذي يدهشنا تارة في حين، يبكينا تارةً أخرى ليلثم جراحنا قصيدة تلو قصيدة. يظهر في دوواينه الأولى تأثره بتجربة الماغوط الأدبية حيث تشاركا فضاءات شعرية متشابهة. ولا تخلو قصائده من نفحات الشعر العالمي والفلسفة الوجودية لهم، مثل بابلو نيرودا وجاك بريفير. كل هذا العمق الشعري لم يلمس جوهر قصائده التي ظلت مقاربةً لبساطة حياته ووضوح أفكاره وعنفوانها، وهذا يظهر جليّا في ديوانه ب(سيطا كالماء). فيما نجده، في مخطوطته الأخيرة يحاول أن يوائم بين نقيضين هما الحب والحياة. ليرثي نفسه لاحقا مقرًّا بالخراب الكبير مشرِّعًا الأبواب للسفر في قصيدته (عن الموتى).
في الختام، رياض الصالح الحسين. لم يكن سوى باحث عن وطن في عيني كل امرأة علّه يقيم بهما أرجوحتان للحب ومنفذاً للربيع، بعيدا عن كل ما آلمه. ربما كان كل ما أراده أن تُملأ مسامَنا بالطفولة ليستحيل الموت إلى حدث عابر، لأن الكتابة لم تكن يومًا إلاّ فِعلُ حياة.